كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن البلاغة اختياره هنا ليدل على أنه جعل أهل بلاد القبط فرقًا ذات نزعات تتشيع كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال فرّق تحكم وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة.
وكان رعمسيس الثاني قسم بلاد مصر إلى ست وثلاثين إيالة وأقام على كل إيالة أمراء نوابًا عنه ليتسنى له ما حكي عنه في هذه الآية بقوله تعالى: {يستضعف طائفة منهم} الواقع موقع الحال من ضمير {جعل} وأبدلت منها بدل اشتمال جملة {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} لأنه ما فعل ذلك بهم إلا لأنه عدّهم ضعفاء، أي أذلة فكان يسومهم العذاب ويسخّرهم لضرب اللبن وللأعمال الشاقة.
والطائفة المستضعفة هي طائفة بني إسرائيل، وضمير {منهم} عائد إلى {أهلها} لا إلى {شيعًا}.
وتقدم الكلام على ذبح أبناء بني إسرائيل في سورة البقرة.
وجملة {إنه كان من المفسدين} تعليل لجملة {إن فرعون علا في الأرض}.
وقد علمت مما مضى عند قوله: {قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين} في سورة [البقرة: 67] أن الخبر بتلك الصيغة أدل على تمكن الوصف مما لو قيل: أن أكون جاهلًا، فكذلك قوله: {إنه كان من المفسدين} دال على شدة تمكن الإفساد من خلقه ولفعل الكون إفادة تمكن خبر الفعل من اسمه.
فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون، ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.
المفسدة الأولى: التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم، وسوء ظنه بهم وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل سوى ما يرضي شهوته وغضبه، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضية سوء رعايته لهم والاجتراء على دحض حقوقهم، وأن يرمقهم بعين الاحتقار فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم، وأن يبتز منافعهم لنفسه ويسخر من استطاع منهم لخدمة أغراضه وأن لا يلين لهم في سياسة فيعاملهم بالغلظة وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته، فهذه الصفة هي أمّ المفاسد وجماعها ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها ثم أعقبت بأنه {كان من المفسدين}.
المفسدة الثانية: أنه جعل أهل المملكة شيعًا وفرّقهم أقسامًا وجعل منهم شيعًا مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينها التحاسد والتباغض، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين.
وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فيكون بعضهم لبعض فتنة، وشأن الملك الصالح أن يجعل الرعية منه كلها بمنزلة واحدة بمنزلة الأبناء من الأب يحب لهم الخير ويقومهم بالعدل واللين، لا ميزة لفرقة على فرقة، ويكون اقتراب أفراد الأمة منه بمقدار المزايا النفسية والعقلية.
المفسدة الثالثة: أنه يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشأوا فيها.
والمراد بالطائفة: بنو إسرائيل وقد كانوا قطنوا في أرض مصر برضى ملكها في زمن يوسف وأعطوا أرض جاسان وعمروها وتكاثروا فيها ومضى عليهم فيها أربعمائة سنة، فكان لهم من الحق في أرض المملكة ما لسائر سكانها فلم يكن من العدل جعلهم بمنزلة دون منازل غيرهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى: {طائفة منهم} إذ جعلها من أهل الأرض الذين جعلهم فرعون شيعًا.
وأشار بقوله: {طائفة} إلى أنه استضعف فريقًا كاملًا، فأفاد ذلك أن الاستضعاف ليس جاريًا على أشخاص معيّنين لأسباب تقتضي استضعافهم ككونهم ساعين بالفساد أو ليسوا أهلًا للاعتداد بهم لانحطاط في أخلاقهم وأعمالهم بل جرى استضعافه على اعتبار العنصرية والقبلية وذلك فساد لأنه يقرن الفاضل بالمفضول.
من أجل ذلك الاستضعاف المنوط بالعنصرية أجرى شدته على أفراد تلك الطائفة دون تمييز بين مستحق وغيره ولم يراع غير النوعية من ذكورة وأنوثة وهي:
المفسدة الرابعة: أنه {يذبح أبناءهم} أي يأمر بذبحهم، فإسناد الذبح إليه مجاز عقلي.
والمراد بالأبناء: الذكور من الأطفال.
وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة.
وقصده من ذلك أن لا تكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم حتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.
المفسدة الخامسة: أنه يستحيي النساء، أي يستبقي حياة الإناث من الأطفال، فأطلق عليهم اسم النساء باعتبار المآل إيماء إلى أنه يستحييهن ليصرن نساء فتصلحن لما تصلح له النساء وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج.
وإذ كان احتقارهن بصد قومه عن التزوج بهن فلم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء إذ كل ذلك اعتداء على الحق.
وقد تقدم آنفًا موقع جملة {إنه كان من المفسدين}.
{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)}.
عطفت جملة {ونريد} على جملة {إن فرعون علا في الأرض} [القصص: 4] لمناسبة ما في تلك الجملة من نبأ تذبيح الأبناء واستحياء النساء، فذلك من علو فرعون في الأرض وهو بيان لنبإ موسى وفرعون فإن إرادة الله الخير بالذين استضعفهم فرعون من تمام نبإ موسى وفرعون، وهو موقع عبرة عظيمة من عِبَر هذه القصة.
وجيء بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد في ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة، ولذلك جاز أن تكون جملة {ونريد} في موضع الحال من ضمير {يستضعف} [القصص: 4] باعتبار أن تلك الإرادة مقارنة لوقت استضعاف فرعون إياهم.
فالمعنى على الاحتمالين: ونحن حينئذ مُريدون أن ننعم في زمن مستقبل على الذين استضعفوا.
والمنّ: الإنعام، وجاء مضارعه مضموم العين على خلاف القياس.
و{الذين استضعفوا في الأرض} هم الطائفة التي استضعفها فرعون.
و{الأرض} هي الأرض في قوله: {إن فرعون علا في الأرض} [القصص: 4].
ونكتة إظهار {الذين استضعفوا} دون إيراد ضمير الطائفة للتنبيه على ما في الصلة من التعليل فإن الله رحيم لعباده، وينصر المستضعفين المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا.
وخص بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل {نمنّ} عطف الخاص على العام وهي: جعلهم أئمة، وجعلهم الوارثين، والتمكين لهم في الأرض، وأن يكون زوال ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة، ذكر كثير منها في سورة البقرة.
فأما جعلهم أئمة فذلك بأن أخرجهم من ذلّ العبودية وجعلهم أمة حرة مالكة أمر نفسها لها شريعة عادلة وقانون معاملاتها وقوة تدفع بها أعداءها ومملكة خالصة لها وحضارة كاملة تفوق حضارة جيرتها بحيث تصير قدوة للأمم في شئون الكمال وطلب الهناء، فهذا معنى جعلهم أئمة، أي يقتدي بهم غيرهم ويدعون الناس إلى الخير وناهيك بما بلغه ملك إسرائيل في عهد سليمان عليه السلام.
وأما جعلهم الوارثين فهو أن يعطيهم الله ديار قوم آخرين ويحكّمهم فيهم، فالإرث مستعمل مجازًا في خلافة أمم أخرى.
فالتعريف في {الوارثين} تعريف الجنس المفيد أنهم أهل الإرث الخاص وهو إرث السلطة في الأرض بعد من كان قبلهم من أهل السلطان، فإن الله أورثهم أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والأراميين، وأحلهم محلهم على ما كانوا عليه من العظمة حتى كانوا يعرفون بالجبابرة قال تعالى: {قالوا يا موسى إن فيها قومًا جبارين} [المائدة: 22].
والتمكين لهم في الأرض تثبيت سلطانهم فيما ملكوه منها وهي أرض الشام إن كانت اللام عوضًا عن المضاف إليه.
ويحتمل أن يكون المعنى تقويتهم بين أمم الأرض إن حمل التعريف على جنس الأرض المنحصر في فرد، أو على العهد، أي الأرض المعهودة للناس.
وأصل التمكين: الجعل في المكان، وقد تقدم في قوله تعالى: {إنا مكّنّا له في الأرض} في سورة [الكهف: 84]، وتقدم الكلام على اشتقاق التمكين وتصاريفه عند قوله تعالى: {مكّنّاهم في الأرض ما لم نمكّن لكم} في سورة [الأنعام: 6].
و{ما كانوا يحذرون} هو زوال ملكهم بسبب رجل من بني إسرائيل حسبما أنذره بذلك الكهان.
ومعنى إراءتهم ذلك إراءتهم مقدماته وأسبابه.
وفرعون الذي أُرِي ذلك هو ملك مصر منفتاح الثالث وهو الذي حكم مصر بعد رعمسيس الثاني الذي كانت ولادة موسى في زمانه وهو الذي كان يحذر ظهور رجل من إسرائيل يكون له شأن.
و{هامان} قال المفسرون: هو وزير فرعون.
وظاهر آيات هذه السورة يقتضي أنه وزير فرعون وأحسب أن هامان ليس باسم علم ولكنه لقب خطة مثل فرعون وكسرى وقيصر ونجاشي.
فالظاهر أن هامان لقب وزير الملك في مصر في ذلك العصر.
وجاء في كتاب أستير من كتب اليهود الملحقة بالتوراة تسمية وزير أحشويروش ملك الفرس هامان فظنوه علمًا فزعموا أنه لم يكن لفرعون وزير اسمه هامان واتخذوا هذا الظن مطعنًا في هذه الآية.
وهذا اشتباه منهم فإن الأعلام لا تنحصر وكذلك ألقاب الولايات قد تشترك بين أمم وخاصة الأمم المتجاورة، فيجوز أن يكون {هامان} علمًا من الأمان فإن الأعلام تتكرر في الأمم والعصور، ويجوز أن يكون لقب خطة في مصر فنقل اليهود هذا اللقب إلى بلاد الفرس في مدة أسرهم.
ويشبه هذا الطعن طعن بعض المستشرقين من نصارى العصر في قوله تعالى في شأن مريم حين حكى قول أهلها لها {يا أخت هارون} [مريم: 28] فقالوا: هذا وهم انجرّ من كون أبي مريم اسمه عمران فتوهم أن عمران هو أبو موسى الرسول عليه السلام، وتبع ذلك توهم أن مريم أخت موسى وهارون وهو مجازفة فإن النصارى لا يعرفون اسم أبي مريم وهل يمتنع أن يكون مسمى على اسم أبي موسى وهارون وهل يمتنع أن يكون لمريم أخ اسمه هارون.
وقد تكلمنا على ذلك في سورة مريم.
والجنود جمع الجند.
ويطلق الجند على الأمة قال تعالى: {هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود} [البروج: 17- 18].
وقرأ الجمهور {ونُرِيَ} بنون العظمة ونصب الفعل ونصب {فرعونَ} وما عطف عليه.
وقرأه حمزة والكسائي وخلف {ويرى} بياء الغائب مفتوحة وفتح الراء على أنه مضارع رأى ورفع {فرعونُ} وما عطف عليه.
ومآل معنى القراءتين واحد.
والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه: هو الجماعة من الناس التي تجتمع على أمر تتبعه، فلذلك يطلق على العسكر لأن عملهم واحد وهو خدمة أميرهم وطاعته. اهـ.